الفن؛ مهنة الشاهد والموثّق

الفنون كانت تاريخيا ولا تزال الوسيلة الأقوى للتوثيق والتعبير، حيث كانت تجسد القضايا الإنسانية بكل تعقيداتها وجمالياتها. لطالما كانت الفنون مرآة لروح البشرية، حافظة للذكريات والمشاعر التي تعجز الكلمات أحياناً عن وصفها. الفنون ليست فقط انعكاساً للحظات الجمال والسعادة، بل هي أيضاً شهادة على الألم والمآسي التي عاشتها الشعوب. على سبيل المثال، تعتبر لوحة "غيرنيكا" لبيكاسو واحدة من أعظم اللوحات التي وثقت فظائع الحرب. هذه اللوحة التي تجسد الدمار الذي خلفته الحرب الأهلية الإسبانية، أصبحت رمزاً لمقاومة القمع وتوثيق لمأساة إنسانية كبيرة. كما نجد اعمال فرانسيسكو غويا في سلسلته الشهيرة "كوارث الحرب" (The Disasters of War)، التي صورت وحشية الحرب النابليونية في إسبانيا، وعكست معاناة المدنيين والجنود على حد سواء. سارجنت، اشتهر بلوحته "غاز مسموم" (Gassed)، التي وثقت معاناة الجنود المصابين بالغازات السامة خلال الحرب العالمية الأولى. اما عربيا، وبالأخص الفنانون المعاصرون، قدمت إيتيل عدنان، لوحات تجريدية تتناول توترات الحرب الأهلية اللبنانية. سليمان منصور يعبر في فنه عن الصمود الفلسطيني، موثقاً النضال والهوية الوطنية من خلال تصويره للإنسان والأرض والتراث. اشتهر ضياء العزاوي بتوثيق معاناة الشعب العراقي والفلسطيني في أعماله الفنية، مثل "مجزرة صبرا وشاتيلا"، حيث سلط الضوء على الحروب والنزاعات في المنطقة بأسلوب بصري مؤثر. عُرف مروان قصاب باشي بتصويره الوجوه البشرية بأسلوب يعكس الألم النفسي والوجودي. كما وركّزا كمال بُلاطة ومهدي مطشّر على الهوية العربية، مستخدماً الهندسة والتجريد

جميع هؤلاء الفنانين وغيّرهم، استطاعوا أن يحوّلوا الفنون إلى سجلات بصرية لتوثيق الأحداث والتجارب الإنسانية العميقة. حيث تحتفي المتاحف بهذه الأعمال لأنها ليست فقط قطعاً فنّية، بل وثائق حيّة للأحداث التي صاغت ملامح التاريخ. مما يجعل أعمالهم إرثاً فنياً يعبر عن تجارب مجتمعاتهم

منذ بداية الحرب على غزة في اكتوبر العام الماضي ٢٠٢٣، والتوغل الاسرائيلي الحالي على لبنان، يواجه الفنانون العرب المعاصرون في منطقتنا، وخاصة الشباب منهم، تحديات كبيرة في نشر أعمالهم وتجاربهم الفنية، خصوصا على صفحات التواصل الاجتماعي، خوفًا من ردود الفعل الاجتماعية (او أحيانا القمع السياسي) التي قد تعتبر فنهم غير مناسب في ظل هذه الاحداث. وهذا التحدي لا يقتصر فقط على الصفحات الرقمية، بل أيضا يضم بعض صالات العرض الرسمية في الأردن

هذا الشعور بالخجل أو التحدي الذي يواجها الفنانون المحلّيون قد يكون ناتجًا عن أفكار متأصلة منذ الصِغر، حيث كان يُنظر إلى الفنون بشكل عام على أنها اشياء ثانوية أو غير مهمة مقارنة بمهن أخرى. هذه الأفكار غالبًا ما تنبع من أقرب الناس إلينا، مثل الأهل الذين قد يكونون قد نشأوا في بيئة تقدر المجالات الأكاديمية التقليدية كالهندسة والطب أكثر من الفنون. أذكر شخصيًا كيف أنني، في سنواتي الأخيرة من الدراسة الثانوية، عندما أعربت لأبي عن رغبتي في دراسة الفنون، قال لي: "يا هندسة يا صيدلة، والرسم سوّييه لما بدّك لحالك". هذه العبارات وغيرها تجعل الفنان يشعر بأن إبداعه ليس له مكان بين الأولويات، مما يؤدي إلى تردد في نشر أعماله أو السعي لتحقيق اهدافه الفنية. لكن الفن، رغم كل هذه التحديات، يظل قوة لا يمكن تقييدها، وهو تعبير صادق عن الذات والواقع، مهما حاولت الظروف الاجتماعية أو الأسرية تثبيطه

الفن مهنة كباقي المهن، بل وقد تكون الأهم لأنها تمثل أداة للتوثيق. كما رأينا في أعمال الفنانين العالميين التي تعرض في متاحف العالم وتستقطب الزوار من جميع أرجاء المعمورة، فإن الفن ليس مجرد هواية بل جزء أساسي من التاريخ الإنساني والثقافة الجماعية. الفنانون، سواء في الماضي أو الحاضر، كانوا شهودًا على الحروب والمآسي الإنسانية وقدموا أعمالاً خالدة تجسد هذه اللحظات التاريخية

كما أن الفن هو أحد أقوى أنواع المقاومة، لأنه يملك القدرة على التأثير في الوجدان وتغيير المفاهيم، لذلك على الفنانين العرب المعاصرين في منطقتنا أن يواصلوا التعبير عن تجاربهم الاجتماعية، السياسية، العاطفية، والنفسية، دون تردد. وعلى المجتمع أن يتقبل هذا التعبير وأن ينظر اليه كحرفة لا تقل أهمية عن المهن الأكاديمية الأخرى. كما لم يمتنع الطبيب أو المهندس أو الصيدلاني عن ممارسة مهنهم في ظل الظروف السياسية الصعبة. الفن ليس رفاهية بل هو جزء أساسي من بناء الهوية الثقافية والتعبير عن الإنسانية

اردا اصلانيان، أكتوبر ٢٠٢٤

Previous
Previous

في مرآة لوحتين: حوار بصري

Next
Next

خاطرة الفن والسياسة