في مرآة لوحتين: حوار بصري
المقدمة
لطالما كان الفن وسيلة أساسية لنقل المعرفة وإعادة قراءة التاريخ، حيث تتجلى فيه مفاهيم الهوية، والتأثيرات الثقافية، والتطورات الأسلوبية عبر العصور. وفي هذا السياق، يمكننا استكشاف كيف يتعامل الفن مع موضوع العلماء والمفكرين، سواء من خلال رؤية تاريخية تُمجد الرموز الذكورية كما في لوحة محمود حماد "العلماء المسلمون" (1988)، أو عبر إعادة تقديم السرديات النسوية كما في لوحة عفيفة لعيبي "عالم رائع" (2024) – أقول سرديات نسوية، واعلم ان هذا الوصف قد لا يتماشى مع الهدف الأساسي للوحة التي نتجت بتكليف من مؤسسة بارجيل للفنون. جاء هذا العمل الفني ليشكل امتداداً بصرياً للوحة «علماء المسلمين» (1988) للفنان التشكيلي الراحل محمود حماد، وهو عمل فني يستحضر الإرث الخالد لـ 16 رجل من القادة والمفكرين والعلماء الذين ساهموا في إثراء الحضارة الإسلامية
تكمن أهمية هذه المقارنة في الكشف عن الفروقات الجوهرية في المعالجة الفنية لموضوع العلماء بين العملين، إذ يعكس كل منهما رؤية فكرية وجمالية متباينة، تنبع من خلفيات تاريخية وثقافية مختلفة. فبينما يسعى حمّاد إلى إعادة إحياء المجد العلمي الإسلامي في سياق استلهامي كلاسيكي، تعمل لعيبي على إعادة تأطير دور المرأة في المعرفة بطرح أكثر تأملاً وواقعية، بعيداً عن الأبعاد الأسطورية أو المثالية
في هذا المقال، سأناقش أوجه التشابه والاختلاف في الأسلوب، والتقنيات، والبنية البصرية، والرموز المستخدمة في كلا العملين على الرغم من إنشاؤهما على بعد عقود، بهدف تقديم تحليل أعمق لكيفية تصوير العلماء والمفكرين الاسلاميين في الفن المعاصر والحديث، ومدى تأثير السياق الاجتماعي والتاريخي على هذه التصورات
لوحة محمود حماد "العلماء المسلمون" (1988)
لوحة عفيفة لعيبي "عالم رائع" (2024)
المقارنة
في لوحة "عالم رائع"، يتم تصوير النساء وهن يشاركن في أنشطة فكرية وثقافية متنوعة مثل الكتابة والقراءة والموسيقى والتطريز وصناعة الطيب والعطور والرعاية الطبية حتى الفروسية، مما يعكس أدوارهن المهمة داخل مجتمعاتهن. حيث تعمل الشخصيات في بيئة محاطة بعناصر تشير إلى الإرث المعرفي والقدرة على الابتكار ولكن تبقى ضمن حدود رمزية. تختلف تعبيرات ووضعيات النساء، مما يعزز الشعور بالحركة والاندماج
على النقيض، تحتفي لوحة "العلماء المسلمون" بالإنجازات الذكورية في العصر الذهبي الإسلامي، حيث يظهر العلماء في مشهد أكثر رسمية ومهيباً، يتبادلون المعرفة من خلال المناقشات ويحملون الكتب والأدوات العلمية والمخطوطات، مما يعزز مكانتهم كرموز للهيمنة الفكرية في السجل التاريخي العام
التكوين البصري
التكوين في "عالم رائع" يمتاز ترتيباً ديناميكياً ومتداخلاً، حيث تتوزع الشخصيات النسائية في مشهد متماسك ومتقارب، تعكس البيئة طابعاً حميمياً ومترابطاً. في المقابل، يتبع التكوين في "العلماء المسلمون" ترتيباً هرمياً ومنظماً، وكأنه يسلط الضوء على الشخصيات الرئيسية في المقدمة، بينما تمثل الشخصيات في الخلفية الاستمرارية التاريخية لهذا الإرث العلمي، حيث يظهر العلماء في مجموعات. كما أن استخدام الزخارف الدائرية وعلامات الفلك والأبراج والرموز السماوية يربط الاستكشاف العلمي بالبعد الكوني، مما يمنح المشهد طابعاً زمنياً ممتدا. كما أن الخلفية المعمارية والعناصر الفلكية تضيف إحساساً بالمكان المهيب، ما يعزز فكرة العلماء كرموز خالدة ضمن إطار حضاري متماسك. في حين تسعى "عالم رائع" إلى إبراز البعد الإنساني والتعاوني للمرأة، يوحي بأن الكثير من إسهامات النساء الفكرية عبر التاريخ تمت في فضاءات خاصة أو لم تحظَ بالتوثيق الكافي
الأسلوب والالوان
يقدم عمل حمّاد قراءة بصرية مستوحاة من جدارية رافائيل "مدرسة أثينا"، حيث أعاد ترتيب المشهد الأيقوني عبر عدسة إسلامية، مجسداً العلماء المسلمين بأسلوب متقن يعكس تقاليد الرسم الفلورنسي في القرن الخامس عشر، مع المحافظة على التوازن الهندسي والمفهوم الرمزي للمكان. على النقيض، تأتي لوحة لعيبي لتقدم مقاربة مختلفة، حيث تستبدل الطابع البطولي ولاحتفائي للعلماء الذكور بمشهد أكثر إنسانية وحميمية، يركز على النساء في فضاء أكثر تجريداً وبساطة، مستوحى من تقاليد الأيقونات والفن الواقعي الاشتراكي
في "عالم رائع"، تُبرز لوحة الألوان النابضة بالحياة - بدرجات الأزرق العميق، والأحمر، والأخضر المهيمن - حيوية المشهد. هذه الألوان الزاهية تعد خروجاً عن تقاليد الفن الإسلامي التاريخي. أما في "العلماء المسلمون"، حيث تهيمن الظلال الترابية من البنّي ودرجات الأزرق والذهبي، مما يضفي على اللوحة إحساساً بالعراقة والارتباط بالماضي. هذا الأسلوب قد يتناغم مع الفنون البصرية الإسلامية مما يضفي على المشهد شعوراً بالوقار والأصالة التاريخية، ذات طابع أكثر خفوتاً
البيئة والسردية
تبدو بيئة "عالم رائع" أكثر حميمية، ربما داخل منزل، حيث تبرز عناصر من الحياة اليومية مثل المنسوجات وأرفف الكتب والتطريز، وكأنها تشير على البيئة الداخلية إلى أن الكثير من الدراسات النسائية كانت تتم في أماكن خاصة، بعيدًا عن المؤسسات الأكاديمية الرسمية. ومع ذلك، فإن انفتاح النوافذ المفتوحة امتداد الطبيعة من الخارج الى الداخل، فإن اللوحة تتحدى فكرة العُزلة، ووجود الطاووس في الداخل والذي بحد ذاته يرمز للحكمة والجمال، وتصور النساء في بيئة جماعية، القارئة والكاتبة والفنانة والعالمة والمهندسة والطبيبة والحاكمة والأم الراعية (او السيدة الكبرى) معا، مما يعزز أشكال المعرفة الفنية والعلمية والجمالية لجهود ومسؤوليات النساء المسلمات عبر التاريخ – نلاحظ هنا وجود رجل واحد بين ١٦ امرأة في اللوحة، وهو في حالة مرض او ضعف بينما تعتني به احدى الطبيبات، وهذا يحمل دلالات رمزية متعددة، بتأكيد دور المرأة في المجتمع كقوة فاعلة في دعم وبناء المجتمع
على النقيض، في "علماء المسلمين"، تحتل الأدوات العلمية والطبية والمخططات الكونية والهندسة المعمارية الخلفية، مما يعزز ويؤكد على السردية الكبرى للتقدم العلمي. البيئة هنا مساحة مفتوحة، مما تشير إلى أن هذه المعرفة تتجاوز الحدود المادية، حيث تحتفي اللوحة بالإرث الموثق للعلماء الذكور، ويعزز مكانتهم في التاريخ، ويوثق أبحاثهم واكتشافاتهم
الرمزية الزمنية
يكشف التباين بين العملين عن كيفية تفضيل التوثيق التاريخي لإنجازات المسلمين، بينما ظلت الإسهامات الفكرية للمرأة غير مرئية أو محصورة في البيئات الخاصة. حيث تتميز لوحة "علماء المسلمين" بجودة تشبه الحلم، مما يرفع العلماء إلى مكانة شبه أسطورية. مما يضعهم في إرث فكري أبدي كرموز شبه إلهية، مما يعزز صورة العصر الذهبي الإسلامي باعتباره أسطوريًا في تطوره العلمي. كذلك، يضفي الضوء الناعم المنتشر هالةً من السمو، بينما تعزز التحولات غير الواضحة بين الشخصيات والخلفية فكرة تجاوزهم للزمن، مما يجعلهم رموزًا تتخطى الواقع التاريخي
في المقابل، تبدو اللوحة عالم رائع" أكثر ارتباطًا بالواقع، مما يبقي النساء متجذرات في بيئة دنيوية ملموسة، حيث يتم تصوير معرفتهن كشيء عملي ومحدد بدلاً من كونه إرثًا شبه إلهي. التحديد المكاني يعكس قيود السياقات الاجتماعية والتاريخية التي كانت تؤطر أدوارهن، ضمن المنزل او الأماكن المنغلقة نوعا ما. إن لوحة لعيبي لا تحاكي تأثيرات من عصور مختلفة، فإن الملابس والأنشطة المصورة لا تشير إلى مفارقة تاريخية. قد يعكس هذا المزج بين الفترات الزمنية، نية لعيبي في تجاوز سياقات تاريخية محددة، وتقديم سرد متماسك يكرم الأدوار متعددة الأوجه للمرأة عبر ثقافات وعصور مختلفة وتجريدها من الزمان والمكان
التاثيرات الفنية
يتضح تأثر لعيبي بالأيقونات الروسية وفن عصر النهضة الإيطالي والواقعية الاشتراكية، حيث تتبنى نهجًا تسطيحيًا مستوحى من الفنون الدينية، بينما تُظهر الشخصيات بأسلوب رمزي أكثر من كونه واقعيًا. هذا التسطيح يعكس غياب التمثيل التاريخي الموثق للنساء المسلمات. أسلوب يميز أعمال الفنانة، يمنح المشهد طابعًا رمزيًا أكثر منه واقعيًا، يعكس رؤيتها الفنية الخاصة. حيث ان المشهد لا يوثق لحظة تاريخية محددة، خصوصا في تصوير ملابس النساء - سواء عصر النهضة الإسلامية والعثمانية والأوروبية - بأسلوب موحّد. بعض العناصر، مثل الحجاب، تتناسب مع صورة النساء المسلمات في العصور الوسطى، إلا أن التراكيب اللونية والتفاصيل تبدو مسرحية بعض الشيء. كما أن ملامح الشخصيات موحدة ومنمقة (ما عدا واحدة، ولهذا أيضا قد يكون دلالات متعددة)، تميل نحو الجمالية أكثر من كونها تجسيدًا فرديًا. يعكس التسطيح المتعمد في العمل لعيبي، غياب التمثيل التاريخي الموثق للنساء. حيث يتجاوز العمل الحواجز الزمنية من خلال دمج فترات مختلفة
على النقيض، في "العلماء المسلمون"، يتم تقديم الشخصيات بعمق ثلاثي الأبعاد أكثر، مع تداخل الأشكال واستخدام التظليل والمنظور الجوي لإضفاء واقعية على المشهد. الشخصيات هنا أكثر نحتية، وتعابير وجوهها أكثر تفصيلًا، مما يضفي عليها طابعًا فرديًا بدلًا من الرمزية الجماعية. كما أن الملابس مستوحاة بدقة من العصر الذهبي الإسلامي، حيث نرى العمائم والجلباب التي تتناسب مع الصور التاريخية لشخصيات مثل ابن رشد وابن سينا والفارابي وغيرهم من المفكرين. ملامح الوجوه أكثر تنوعًا، حيث تعكس التعابير القوية والفردية للشخصيات، فيما تضفي اللحية والحواجب المجعدة والنظرات العميقة طابعًا واقعيًا يكرس العلماء كشخصيات تاريخية محددة في سياق زمني ومكاني دقيق. على عكس الوحدة النمطية التي تعتمدها لعيبي
العنوان ودلالاته
ربما يكون غياب الدقة التاريخية في "عالم رائع" مقصودًا، حيث تسعى الفنانة إلى التأكيد على أن إسهامات النساء في المعرفة والفكر لم تكن محصورة في فترة زمنية واحدة، بل امتدت عبر العصور، حتى وإن لم يتم توثيقها بالشكل الكافي. كما أن اختيار عنوان اللوحة يحمل دهاءً واضحًا، حيث يمنع المقارنة المباشرة بينها وبين "العلماء المسلمون". فلو كان العنوان "العالمات المسلمات"، لبرزت المفارقة بين العملين بحدّة، مما قد يضع اللوحة في مواجهة مباشرة مع نظيرها الذكوري. بدلاً من ذلك، يوحي عنوان "عالم رائع" بجمال المرأة عبر الزمن، ليس فقط في إسهاماتها العلمية والثقافية، ولكن أيضًا في دورها كأم وراعية، وكعنصر أساسي في تشكيل مجتمع أكثر إنسانية وجمالًا. بهذا، لا تسعى اللوحة إلى حصر المرأة في مجال الإنجاز العلمي، بل تمجد دورها الأوسع في صناعة التاريخ والارتقاء بالحياة الإنسانية. يمنح هذا الاختيار الجريء اللوحة طابعاً معاصراً، حيث تبدو وكأنها إعادة تصور تاريخية أكثر من كونها تمثيلاً مباشراً للباحثات الإسلاميات في الماضي. ورغم الجاذبية البصرية لهذا الأسلوب، فإنه يثير تساؤلاً حول مدى دقته في تصوير النساء المسلمات العالمات تاريخياً، أم أنه بالأحرى محاولة لتحديث صورتهن وتقديمها بروح تتماشى مع تطلعات الجمهور المعاصر
"عالم رائع" لعفيفة لعليبي هي شهادة على تجربتها الفنية الغنية ورحلتها الشخصية. حيث يتضح تأثر الفنانة للأيقونات الروسية وفن عصر النهضة الإيطالي والواقعية الاجتماعية في عملها. اما بخصوص التركيز على الشكل الأنثوي، فهذه من الأمور الأساسية في أعمال لعليبي، حيث في هذه اللوحة، يتم تقديم وتصوير النساء بصلابة نحتية، وأشكالهن تنضح بالقوة والانوثة
اردا اصلانيان، ٢٢ فبراير ٢٠٢٥